عند ذِكر اسم دولة ما, يقوم عقلك الباطني بإرسال أول صورة عليها, فمثلاً عند ذِكر دولة إيطاليا سيخطُر على بالِك "البيتزا أو المافيا", و عند ذِكر فرنسا ستتذكَّر "برج إيفل", و عند ذِكر السعودية ستتذكَّر "البيترول أو الحج", أما إذا ذكرت مصر فسيخطر على بالك و بدون تردُّد "الفراعنة و الأهرامات" الحضارة التي كانت و لا تزال أحد أغنى الحضارات الإنسانية من ناحية الموروث الثقافي و العلمي و طريقة العيش .
الحضارة الفرعونية التي لهَمت جميع العلماء من جميع الأصناف "الطب, الفلك, الرياضيات, العمارة, و علم الإجتماع, ..."
بداية قصة الفراعنة كما هو مرجّح في 3100 قبل الميلاد, يعني 5120 سنة قبل يومنا هذا, بحيث تَمّ توحيد مصر كاملة بعدما كنت مقسّمة إلى دولتين و هما " الديلتا و الصعيد " فأصبحت دولة واحدة و حكم واحد تحت سلطة مركزية التي كانت بيد الفرعون "نارمر" وهو أول فرعون مصري أسّس أول أسرة فرعونية حاكمة من أصل 31 أسرة فرعونية التي عاشت في عصر التاريخ الثاني المصري, أما الأصل العِرقي للفراعنة فلا يزال علامة استفهام, لأنه يحتوي على تناقضات علمية, فهناك من يقول أن أصلهم أفارقة و بالضبط الأفارقة السّود حسب ما ذكر الشيخ الإثيوبي "أنتا ديوب" في أحد كتبه بعنوان "الأصول الزِّنجية للحضارة المصرية", و هذا ما أكّدته بعض التماثيل المصرية المنحوتة قديماً و التي كانت تعتمد على الأحجار السوداء, إضافة إلى هذا فقد قال الشيخ "ديوب" أن اللغة المصرية في عهد الفراعنة تعود لإحدى اللّغات الإفريقية القديمة .
بينما هناك البعض الذين رفضوا هذه الفرضية و نسبوا الفراعنة للعرب, و منهم من يقول أنهم بالضبط من الشرق الأوسط, و هذا ما أكدته دراسة علمية سنة 2017 بواسطة علماء من فرع المعهد "ماكس بلانك" بإحدى الجامعات الألمانية و بتنسيق مع الدكتورة Verana Sch Nemann من جامعة Tubingen في مدينة شتوتغارت .
هذه الدراسة بُنِيَت على التحليل الكامل للشفرة الوراثية لبعض الموميائات و التي أكدت أن جذورهم كانت من بلاد الشّام و هي شعوب سكنت في كل من سوريا, الأردن, فلسطين و لبنان و تركيا بالشرق الأوسط, هذا التحليل الحمضي النووي أُجري على حوالي 90 مومياء عاشوا ما بين 1400 قبل الميلاد إلى غاية 400 بعد الميلاد, و بما أنه كانت كل هذه الموميائات من منطقة واحدة, لذلك فنتيجة هذه التجربة ليست بالحتمية ولكنها تبقى من الفرضيات المقبولة, مع العلم أنه في هذه الفترة كان حكم بعض المناطق في مصر قد خرج من يد الفراعنة و كانت بيد "الهيكسوس" المنحدرون من الشرق الأوسط, يعني أنه من الممكن أن تلك الموميائات ليست للمصريين و إنما العكس .
و قبل الخوض في التفاصيل هناك ملاحظة حول كلمة "فرعون" التي يتعارض معظم الناس في كون هذه الكلمة هي اسم أم لقب ?
حسب عدد من المؤرخين و علماء اللغة فكلمة "فرعون" هي لقب و تعني الحاكِم, و هذه كانت عادة في العصور القديمة بحيث يطلقون ألقابا على الحُكَّام, و بالتالي فكل فترة و الفرعون الخاص بها .
و للتعمق في الحضارة الفرعونية فأول شيء يجب معرفته هو المجتمع الفرعوني وكيف كانت طبقاته الإجتماعية ?
بغض النظر عن السلطة الحاكمة التي كانت بيد الفرعون فقد كانت التقسيمات كالآتي :
* العبيد : الذين كانوا يعملون لدى النبلاء و السلطة الحاكمة .
* المزارعين : و هم أغلب سكان مصر بحيث يشكلون شريحة كبيرة و معظمهم كانوا يعملون في المعابد أو الأُسر النبيلة .
* الفنانين أو الحِرفيِّين : كانت لهم مكانة فوق المزارعيين حيث كانوا يعملون في المعابد و يتلقون رواتبهم من خزينة الدولة .
* الكُتَّاب و المسؤولون : و يسمون كذلك بطبقة التَّنُّورة البيضاء و منهم كذلك الكَهَنة .
أما من ناحية القوانين الإجتماعية فالفراعنة كانوا من الأولين الذين احترموا المرأة و مسؤولياتها, بحيث كانت لها مكانة عظيمة, كما كانت المرأة في الأسرة الحاكمة لها دور في صناعة القرار, و كانت بنت الملك الفرعوني بمثابة إلاه, إضافة على هذا كانت الزوجة الفرعونية لها مكانة مقدسة لدرجة أنه كان من المُعتقد أن فيضان النّيل مثلاً هو دموع الإلاهة "إيزيس" التي تبكي على زوجها "أوزوريس" .
الحضارة الفرعونية كانت معروفة بالزراعة و الطرق الفلاحية الخاصة بهم, فقد كانوا يستغلون نهر النيل بالرغم من فيضانه في بعض الأحيان, و قد كانت لهم ثلاثة فصول في السنة :
* أَخت : و هو موسم الفيضانات .
* وبيريت : و هو موسم الزراعة و الفلاحة .
* شيمو : و هو موسم الحصاد .
و بعيدا عن الموسم الزراعي فقد ازدهرت كذلك العُلوم في عهد الفراعنة, و من أبرز الإنجازات العلمية التي خرجوا بها, هي التقويم السنوي, حيث كان لهم 365 يوم في السنة, كما كانوا يتنبؤوا بفيضانات النيل بطريقة علمية, فقد كانوا يربطون بين حركة الأجرام السماوية و بين ارتفاع منسوب مياه النيل, كما كانوا متقدمين في علم الطب و العلاج و الجراحة, و كان لهم إنجاز عظيم مُعترف به لحد الساعة و هو "التحنيط" عملية تحافظ على الأعضاء الداخلية للإنسان للعيش بهم في الحياة الأخرى حسب اعتقادهم, كما كانوا من الأوائل الذين صنعوا الأساس الأول في علم الرياضيات و الهندسة, و الدليل يوجد في الأهرامات و التماثيل و تصميم القبور, زيادة على هذا فقد كانوا يستطعون تحديد وزن و مكيال الأجسام .
و بالإضافة لكل هذا فقد كانت الحضارة الفرعونية تهتم بالآداب و الفنون, و من بين الفنون التي اشتهروا بها النحت على الحشب و الطين و صناعة الأواني المُزخرفة دون نسيان التماثيل التي كانت لها مكانة كبيرة في المجتمع المصري في تلك الحقبة .
أما الأدب الفرعوني فقد كان حِكراً على طبقة مثقفة ذكرناها سابقاً, و كانت اللغات التي تكلموا بها هي "اللغة الهيروغريفية" و "اللغة الهيراطيقية", زيادة على الموسيقى و المسرح و الفنون الأدائية التي كانوا يُتقنونها .
بينما من الناحية السياسية فقد كان نظامهم السياسي منظم و يترأسه الفرعون, و كان معه وُزراء و إداريين يقومون بفرض قوانين تنظيمية و جنائية, حيث كانت عقوبات على الجرائم مثل مقومات و أُسس الدولة العصرية تقريبا .
و من أبرز الأُسر الفرعونية التي تركت بصمة كبيرة في تاريخ الفراعنة نذكر :
* زوسر : حكم من 2686 قبل الميلاد إلى 2649 قبل الميلاد, و كان من أشهر فراعنة السُّلالة الحاكمة الثالثة و هو صاحب هرم "صُقارة" الذي دُفن فيه, كما أن هذا الهرم يُعتبر من أهم معالم العمارة المصرية القديمة .
* خوفو : حكم من 2589 قبل الميلاد إلى 2566 قبل الميلاد, و كان من أشهر فراعنة السُّلالة الحاكمة الرابعة, و يُعتبر الهرم الأكبر في "الجيزة" إرثه الأعظم, حيث يُعَدُّ هذا الهرم أحد عجائب الدنيا السبع .
* حتشبسوت : حكمت من 1478 قبل الميلاد إلى 1458 قبل الميلاد, و كانت ثاني امرأة تتولى دور الفرعون في السُّلالة الحاكمة الثامنة عشر و في عهدها ازدهرت التجارة كما ظهرت طرق تجارية جديدة, و حافظت على سلام مصر القديمة لفترات طويلة .
* أخناتون : حكم من 1351 قبل الميلاد إلى 1334 قبل الميلاد,فرعون من السلالة الحاكمة الثامنة عشر و زوجته هي الملكة الشهيرة "نفرتيتي", و هو من أس س ديانة رسمية جديدة مخصصة ل "آتون" و هو إلاه الشمس الذين يعتبره الإلاه الذي لا شريك له .
كيف كانت نهاية الفراعنة ?
بعد 3000 عام من الحكم تقريبا, ظهرت العديد من الإمبراطوريات في العالم تتوسع في آسيا و أوروبا و حتى إفريقيا, و كان الفراعنة قد تعرضوا للعديد من محاولات الغزو من طرف الهيكسوس الذين حكموا في بعض مناطق مصر, بل حتى أنها شاركت في حكم مصر مع الفراعنة لسنوات, قبل عودة الفراعنة لإسترجاع أراضيهم .
و مع مرور الوقت جاء غُزات آخرين "الأشروريين" و "الروم" و غيرهم , كما أن جفاف النيل ساهم في ضعف الفراعنة اقتصاديا و بدأت سلطة الفراعنة في النقصان, و بالفعل تم سقوط مصر و ضمها ل "لإمبراطورية الأخمنيونية الفارسية" . هذه الأخيرة التي أرادت القضاء على الحضارة الفرعونية بأكملها, لكن مجيء "الإسكندر الأعظم" الذي أسقط الفُرس ثم أعاد توحيد مصر كاملة و روّج لنفسه على أنه أحد الفراعنة و استمر على تقاليدهم, كما استمر حكم سلالته حتى وصول "كليوباترا" للحكم, و التي انتحرت بعد دخول الروم لمصر .
و في النهاية فالفراعنة تركوا حضارةً و تاريخاً صامدين, و بالرغم من العديد من الفراغات في التاريخ الفرعوني التي لاتزال غير مكتملة الوضوح, إلا أن علماء الآثار لا يزالون يكتشفون الجديد .